فصل: الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 الوجه الثاني والعشرون

أن الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا والسيئات سبب للتحريم دينا وكونا، فإن التحريم قد يكون حمية، وقد يكون عقوبة والإحلال قد يكون سعة، وقد يكون عقوبة وفتنة قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ فأباح بهيمة الأنعام في حال كونهم غير محلي الصيد وهو اعتقاد تحريم ذلك واجتنابه‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وقد ثبت أنها نزلت عشية عرفة في حجة الوداع فأكمل الله الدين بإيجابه لما أوجبه من الواجبات التي آخرها الحج وتحريمه للمحرمات المذكورة في هذه الآية هذا من جهة شرعه ومن جهة الفعل الذي هو تقويته وإعانته ونصره يئس الذين كفروا من ديننا وحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الإسلام فلما أكملوا الدين قال عقب ذلك‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 4‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ فكان إحلاله الطيبات يوم أكمل الدين فأكمله تحريما وتحليلا لما أكملوه امتثالا‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏ الآية وهي بينة في الإصلاح والتقوى والإحسان موجبة لرفع الحرج وإن المؤمن العامل الصالحات المحسن لا حرج عليه ولا جناح فيما طعم فإن فيه عونا له وقوة على الإيمان والعمل الصالح والإحسان‏:‏ ومن سواهم على الحرج والجناح، لأن النعم إنما خلقها الله ليستعان بها على الطاعة والآية مدنية وهي من آخر ما نزل من القرآن وقال تعالى عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏،

وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏‏.‏ وقال‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 65‏:‏ 66‏]‏‏.‏

وأما الطرف الآخر فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّه ِكَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160،161‏]‏‏,‏ وقال‏:‏ َعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏، إلى آخر الآيات‏.‏

وأما كون الإحلال والإعطاء فتنة فقوله‏:‏ ‏{‏وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 16، 17‏]‏، ‏{‏وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 75، 76‏]‏ الآيات، ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 7‏]‏، ‏{‏وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 80‏]‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 81‏]‏‏.‏

ويختلف التحليل والتحريم باعتبار النية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقد كتبت في قاعدة ‏[‏العهود والعقود‏]‏- القاعدة في العهود الدينية في القواعد المطلقة والقاعدة في العقود الدنيوية في القواعد الفقهية، وفي كتاب النذر أيضا - أن ما وجب بالشرع إن نذره العبد أو عاهد الله عليه أو بايع عليه الرسول أو الإمام أو تحالف عليه جماعة فإن هذه العهود والمواثيق تقتضي له وجوبا ثانيا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول فتكون واجبة من وجهين بحيث يستحق تاركها من العقوبة ما يستحقه ناقض العهد والميثاق وما يستحقه عاصي الله ورسوله‏.‏ هذا هو التحقيق‏.‏ ومن قال من أصحاب أحمد‏:‏ إنه إذا نذر واجبا فهو بعد النذر كما كان قبل النذر بخلاف نذر المستحب فليس كما قال بل النذر إذا كان يوجب فعل المستحب فإيجابه لفعل الواجب أولى وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل هما وجوبان من نوعين لكل نوع حكم غير حكم الآخر مثل الجدة إذا كانت أم أم أم وأم أب أب فإن فيها شيئين كل منهما تستحق به السدس‏.‏

وكذلك من قال من أصحاب أحمد‏:‏ إن الشروط التي هي من مقتضى العقد لا يصح اشتراطها أو قد تفسده حتى قال بعض أصحاب الشافعي‏:‏ إذا قال‏:‏ زوجتك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان كان النكاح فاسدا، لأنه شرط فيه الطلاق‏.‏ فهذا كلام فاسد جدا، فإن العقود إنما وجبت موجباتها لإيجاب المتعاقدين لها على أنفسهما ومطلق العقد له معنى مفهوم فإذا أطلق كانا قد أوجبا ما هو المفهوم منه، فإن موجب العقد هو واجب بالعقد كموجب النذر لم يوجبه الشارع ابتداء وإنما أوجب الوفاء بالعقود كما أوجب الوفاء بالنذر فإذا كان له موجب معلوم بلفظ مطلق أو يعرف المتعاقدان إيجابه بلفظ خاص‏:‏ كان هذا من باب عطف الخاص على العام فيكون قد أوجبه مرتين أو جعل له إيجابا خاصا يستغنى به عن الإيجاب العام‏.‏

وفي القرآن من هذا نظائر مثل قوله‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{‏حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 59‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏، فإن الله أعلن عهده الذي أمرهم به من بعد ما أخذ عليهم الميثاق بالوفاء به فاجتمع فيه الوجهان‏:‏ العهدي، والميثاقي‏.‏ وفي القرآن من العهود والمواثيق على ما وجب بأمر الله شيء كثير فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 63‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏، إلى آخر الكلام وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 93‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏ الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 76، 77‏]‏ فإن قوله‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 76‏]‏، بعد ذكره للإيمان يقتضي أنه الوفاء بموجب العقود في المعاملات ونحوها كما قال في آية البيع‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏، فأداء الأمانة هو الوفاء بموجب العقود في المعاملات من القبض والتسليم، فإن ذلك واجب بعقده فقط ثم قال بعده‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏، فعهد الله ما عهده إليهم وأيمانهم ما عقدوه من الأيمان‏.‏

وسبب نزولها قصة الأشعث بن قيس التي في الصحيحين في محاكمته مع اليهودي حين قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان‏)‏ وأنزل الله هذه الآية فإن ذلك المال كان يجب تسليمه إلى مستحقه بموجب عهده فإذا حلف بعد هذا على استحقاقه دون مستحقه فقد صار عاصيا من وجهين نظير قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏، وضدهم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ الآية قال ابن عباس‏:‏ ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق‏:‏ لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمر أن يأخذ الميثاق على أمته‏:‏ إن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه‏.‏

ومعلوم أن محمدا إذا بعثه الله برسالة عامة وجب الإيمان به ونصرته على كل من بلغته دعوته وإن لم يكن قد أخذ عليه ميثاق بذلك وقد أخذ عليهم الميثاق بما هو واجب بأمر الله بلا ميثاق وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 154، 155‏]‏ الآيات فهذا ميثاق أخذه الله ‏.‏

 وقال رحمه الله‏:‏

تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه ‏؟‏ وهل يكون نهيا عن ضده ‏؟‏ مع اتفاقهم على أن فعل المأمور لا يكون إلا مع فعل لوازمه وترك ضده‏.‏

ومنشأ النزاع أن الآمر بالفعل قد لا يكون مقصوده اللوازم ولا ترك الضد، ولهذا إذا عاقب المكلف لا يعاقبه إلا على ترك المأمور فقط لا يعاقبه على ترك لوازمه وفعل ضده‏.‏

وهذه المسألة هي الملقبة‏:‏ بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب‏.‏ وقد غلط فيها بعض الناس فقسموا ذلك‏:‏ إلى ما لا يقدر المكلف عليه، كالصحة في الأعضاء والعدد في الجمعة، ونحو ذلك مما لا يكون قادرا على تحصيله‏.‏ وإلى ما يقدر عليه كقطع المسافة في الحج وغسل جزء من الرأس في الوضوء وإمساك جزء من الليل في الصيام ونحو ذلك‏.‏ فقالوا‏:‏ ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب‏.‏ وهذا التقسيم خطأ، فإن هذه الأمور التي ذكروها هي شرط في الوجوب فلا يتم الواجب إلا بها وما لا يتم الواجب إلا به يجب على العبد فعله باتفاق المسلمين سواء كان مقدورا عليه أو لا كالاستطاعة في الحج واكتساب نصاب الزكاة، فإن العبد إذا كان مستطيعا للحج وجب عليه الحج وإذا كان مالكا لنصاب الزكاة وجبت عليه الزكاة فالوجوب لا يتم إلا بذلك فلا يجب عليه تحصيل استطاعة الحج ولا ملك النصاب، ولهذا من يقول‏:‏ إن الاستطاعة في الحج ملك المال - كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد - فلا يوجبون عليه الاكتساب ولم يتنازعوا إلا فيما إذا بذلت له الاستطاعة إما بذل الحج وإما بذل المال له من ولده‏.‏

وفيه نزاع معروف في مذهب الشافعي وأحمد ولكن المشهور من مذهب أحمد عدم الوجوب وإنما أوجبه طائفة من أصحابه، لكون الأب له على أصله أن يتملك مال ولده فيكون قبوله كتملك المباحات‏.‏ والمشهور من مذهب الشافعي الوجوب ببذل الابن بالفعل‏.‏

والمقصود هنا‏:‏ الفرق بين ما لا يتم الواجب إلا به وما لا يتم الوجوب إلا به وأن الكلام في القسم الثاني إنما هو فيما لا يتم الواجب إلا به كقطع المسافة في الجمعة والحج ونحو ذلك فعلى المكلف فعله باتفاق المسلمين لكن من ترك الحج وهو بعيد الدار عن مكة، أو ترك الجمعة وهو بعيد الدار عن الجامع، فقد ترك أكثر مما ترك قريب الدار ومع هذا فلا يقال‏:‏ إن عقوبة هذا أعظم من عقوبة قريب الدار‏.‏

والواجب‏:‏ ما يكون تركه سببا للذم والعقاب فلو كان هذا الذي لزمه فعله بطريق التبع مقصودا بالوجوب لكان الذم والعقاب لتاركه أعظم فيكون من ترك الحج من أهل الهند والأندلس أعظم عقابا ممن تركه من أهل مكة والطائف ومن ترك الجمعة من أقصى المدينة أعظم عقابا ممن تركها من جيران المسجد الجامع فلما كان من المعلوم أن ثواب البعيد أعظم وعقابه إذا ترك ليس أعظم من عقاب القريب‏:‏ نشأت من ههنا الشبهة‏:‏ هل هو واجب أو ليس بواجب ‏؟‏

والتحقيق‏:‏ أن وجوبه بطريق اللزوم العقلي لا بطريق قصد الأمر، بل الأمر بالفعل قد لا يقصد طلب لوازمه وإن كان عالما بأنه لا بد من وجودها، وإن كان ممن تجوز عليه الغفلة فقد لا تخطر بقلبه اللوازم‏.‏ ومن فهم هذا انحلت عنه شبه الكعبي‏:‏ هل في الشريعة مباح أم لا ‏؟‏ فإن الكعبي زعم أنه لا مباح في الشريعة‏.‏ ‏.‏‏.‏ إلخ ‏,‏ فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها ويبغض من يفعل ذلك كما قال بعض السلف‏:‏ ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه‏.‏

ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لا بد أن يلبس فيه حقا بباطل بحسب ما يقول من الألفاظ المجملة المتشابهة، ولهذا قال الإمام أحمد في أول ما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله مما كتبه في حبسه - وقد ذكره الخلال في ‏[‏كتاب السنة‏]‏ والقاضي أبو يعلى، وأبو الفضل التميمي، وأبو الوفاء ابن عقيل، وغير واحد من أصحاب أحمد ولم ينفه أحد منهم عنه والحمد لله‏.‏

والمقصود قوله‏:‏ - يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم‏.‏ فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلى قولهم والتزامهم به أمكن أن يقال لهم‏:‏ لا يجب على أحد أن يجيب داعيا إلا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه ولا له دعوة الناس إلى ذلك ولو قدر أن ذلك المعنى حق، وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم على ولاة الأمور وأدخلوه في بدعهم‏.‏ كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال‏:‏ ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة‏.‏ وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل‏.‏

ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقا أو اعتقادا زعم أن الإيمان لا يتم إلا به مع العلم بأن الرسول لم يذكره وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة قال الشافعي - رحمه الله -‏:‏ البدعة بدعتان‏:‏ بدعة خالفت كتابا وسنة وإجماعا وأثرا عن بعض ‏[‏أصحاب‏]‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه بدعة ضلالة‏.‏ وبدعة لم تخالف شيئا من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر‏:‏ نعمت البدعة هذه هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل ويروى عن مالك رحمه الله أنه قال‏:‏ إذا قل العلم ظهر الجفا وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء‏.‏

ولهذا تجد قوما كثيرين يحبون قوما ويبغضون قوما لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها بل يوالون على إطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها ولا يعرفون لازمها ومقتضاها‏.‏ وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة وجعلها مذاهب يدعى إليها ويوالي ويعادي عليها وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏إن أصدق الكلام كلام الله إلخ‏.‏ ‏.‏‏)‏ فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هي أصول معصومة وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول‏.‏ وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون‏.‏ والخوارج إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرا، لاعتقادهم أنه خالف القرآن فمن ابتدع أقوالا ليس لها أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرا كان قوله شرا من قول الخوارج‏.‏

ويجب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه، بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ولا وفى بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين‏.‏

وقد أوجب الله على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه ومن الإيمان به تصديقه في كل ما أخبر به ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته‏.‏

ومن المعلوم أنه لا بد في كل مسألة دائرة بين النفي والإثبات من حق ثابت في نفس الأمر، أو تفصيل لكن من لم يكن عارفا بآثار السلف وحقائق أقوالهم وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة، وحقيقة المعقول الصريح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك لم يمكنه أن يقول بمبلغ علمه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏.‏

ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة‏.‏ وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل، مع كونه لم يطلب العلم فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأ تحقيقا لقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

و أهل السنة جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى، كما نطق به القرآن وإنما توقفوا في شخص معين، لعدم العلم بدخوله في المتقين‏.‏ وحال سائر أهل الأقوال الضعيفة الذين يحتجون بظاهر القرآن على ما يخالف السنة إذا خفي الأمر عليهم مع أنه لم يوجد في ظاهر القرآن ما يخالف السنة كمن قال‏:‏ من الخوارج‏:‏ لا يصلي في السفر إلا أربعا‏.‏ ومن قال إن الأربع أفضل‏.‏ ومن قال‏:‏ لا نحكم بشاهد ويمين‏.‏ وما دل عليه ظاهر القرآن حق وأنه ليس بعام مخصوص فإنه ليس هناك عموم لفظي وإنما هو مطلق كقوله‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏‏;‏ فإنه عام في الأعيان مطلق في الأحوال وقوله‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏، عام في الأولاد مطلق في الأحوال‏.‏ ولفظ الظاهر يراد به ما يظهر للإنسان وقد يراد به ما يدل عليه اللفظ‏.‏ فالأول يكون بحسب مفهوم الناس وفي القرآن مما يخالف الفهم الفاسد شيء كثير ‏.‏

 وقال شيخ الإسلام رحمه الله

فصل

في تعليل الحكم الواحد بعلتين‏:‏ وما يشبه ذلك من وجود مقدر واحد بين قادرين ووجود الفعل الواحد من فاعلين فنقول‏:‏

النزاع وإن كان مشهورا في ذلك فأكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يجوز تعليل الحكم بعلتين وكثير من الفقهاء والمتكلمين يمنع ذلك‏.‏ فالنزاع في ذلك يعود إلى نزاع تنوعي، ونزاع في العبارة، وليس بنزاع تناقض ونظير ذلك النزاع في تخصيص العلة، فإن هذا فيه خلاف مشهور بين الطوائف كلها من أصحابنا وغيرهم حتى يذكر ذلك روايتان عن أحمد‏.‏ وأصل ذلك أن مسمى العلة قد يعني به العلة الموجبة وهي‏:‏ التامة التي يمتنع تخلف الحكم عنها فهذه لا يتصور تخصيصها ومتى انتقضت فسدت ويدخل فيها ما يسمى جزء العلة، وشرط الحكم، وعدم المانع فسائر ما يتوقف الحكم عليه يدخل فيها‏.‏ وقد يعني بالعلة‏:‏ ما كان مقتضيا للحكم يعني‏:‏ أن فيه معنى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجبا فيمتنع تخلف الحكم عنه فهذه قد يقف حكمها على ثبوت شروط وانتفاء موانع فإذا تخصصت فكان تخلف الحكم عنها لفقدان شرط أو وجود مانع لم يقدح فيها وعلى هذا فينجبر النقص بالفرق‏.‏ وإن كان التخلف عنها لا لفوات شرط ولا وجود مانع كان ذلك دليلا على أنها ليست بعلة، إذ هي بهذا التقدير علة تامة إذا قدر أنها جميعها بشروطها وعدم موانعها موجودة حكما والعلة التامة يمتنع تخلف الحكم عنها فتخلفه يدل على أنها ليست علة تامة والمقصود من التنظير‏:‏ أن سؤال النقض الوارد على العلة مبني على تخصيص العلة وهو ثبوت الوصف بدون الحكم‏.‏ وسؤال عدم التأثير عكسه وهو ثبوت الحكم بدون الوصف وهو ينافي عكس العلة كما أن الأول ينافي طردها‏.‏ والعكس مبني على تعليل الحكم بعلتين‏.‏

وجمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم وإن كانوا لا يشترطون الانعكاس في العلل الشرعية ويجوزون تعليل الحكم الواحد بعلتين، فهم مع ذلك يقولون‏:‏ العلة تفسد بعدم التأثير، لأن ثبوت الحكم بدون هذا الوصف يبين أن هذا الوصف ليس علة، إذا لم يخلف هذا الوصف وصفا آخر يكون علة له فهم يوردون هذا السؤال في الموضع الذي ليست العلة فيه إلا علة واحدة إما لقيام الدليل على ذلك، وإما لتسليم المستدل لذلك‏.‏ والمقصود هنا أن نبين أن النزاع في تعليل الحكم بعلتين يرجع إلى نزاع تنوع ونزاع في العبارة لا إلى نزاع تناقض معنوي، وذلك أن الحكم الواحد بالجنس والنوع لا خلاف في جواز تعليله بعلتين يعني أن بعض أنواعه أو أفراده يثبت بعلة، وبعض أنواعه أو أفراده يثبت بعلة أخرى كالإرث الذي يثبت بالرحم وبالنكاح وبالولاء والملك الذي يثبت بالبيع والهبة والإرث وحل الدم الذي يثبت بالردة والقتل والزنا ونواقض الوضوء وموجبات الغسل وغير ذلك‏.‏

وأما التنازع بينهم في الحكم المعين الواحد بالشخص، مثل من لمس النساء ومس ذكره وبال‏:‏ هل يقال‏:‏ انتقاض وضوئه ثبت بعلل متعددة ‏؟‏ فيكون الحكم الواحد معللا بعلتين‏.‏ ومثل من قتل وارتد وزنى، ومثل الربيبة إذا كانت محرمة بالرضاع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في درة بنت أم سلمة لما قالت له أم حبيبة‏:‏ إنا نتحدث أنك ناكح درة بنت أم سلمة فقال‏:‏ بنت أبي سلمة ‏؟‏ فقالت‏:‏ نعم فقال‏:‏ ‏(‏إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي، لأنها بنت أخي من الرضاعة‏.‏ أرضعتني وأبا سلمة ثويبة مولاة أبي لهب‏)‏ وكما قال أحمد في بعض ما يذكره‏:‏ هذا كلحم خنزير ميت حرام من وجهين‏.‏ وأمثال ذلك‏.‏

فنقول‏:‏ لا نزاع بين الطائفتين في أمثال هذه الأمور أن كل واحدة من العلتين مستقلة بالحكم في حال الانفراد وأنه يجوز أن يقال‏:‏ إنه اجتمع لهذا الحكم علتان كل واحدة منهما مستقلة به إذا انفردت فهذا أيضا مما لا نزاع فيه وهو معنى قولهم‏:‏ يجوز تعليله بعلتين على البدل بلا نزاع‏.‏

ولا يتنازع العقلاء أن العلتين إذا اجتمعتا لم يجز أن يقال‏:‏ إن الحكم الواحد ثبت بكل منهما حال الاجتماع على سبيل الاستقلال، فإن استقلال العلة بالحكم هو ثبوته بها دون غيرها‏.‏ فإذا قيل‏:‏ ثبت بهذه دون غيرها، وثبت بهذه دون غيرها‏:‏ كان ذلك جمعا بين النقيضين وكان التقدير‏:‏ ثبت بهذه ولم يثبت بها، وثبت بهذه ولم يثبت بها فكان ذلك جمعا بين إثبات التعليل بكل منهما وبين نفي التعليل عن كل منهما وهذا معنى ما يقال‏:‏ إن تعليله بكل منهما على سبيل الاستقلال ينفي ثبوته بواحدة منهما وما أفضى إثباته إلى نفيه كان باطلا‏.‏

وهنا يتقابل النفاة والمثبتة، والنزاع لفظي، فتقول النفاة‏:‏ إثبات الحكم بهذه العلة على سبيل الاستقلال ينافي إثباته بالأخرى على سبيل الاستقلال‏.‏ وتقول المثبتة‏:‏ نحن لا نعني بالاستقلال‏:‏ الاستقلال في حال الاجتماع وإنما نعني‏:‏ أن الحكم ثبت بكل منهما، وهي مستقلة به إذا انفردت‏.‏ فهؤلاء لم ينازعوا الأولين في أنهما حال الاجتماع لم تستقل واحدة منهما به وأولئك لم ينازعوا هؤلاء في أن كل واحدة من العلتين مستقلة حال انفرادها‏.‏

فهذا هو الكلام في العلتين المجتمعتين‏.‏

وأما الحكم الثابت حين اجتماعهما فقد يكون مختلفا كحل القتل الثابت بالردة وبالزنا وبالقصاص، فإن هذه الأحكام مختلفة غير متماثلة لا يسد كل واحد منها مسد الآخر وقد تكون الأحكام متماثلة كانتقاض الوضوء فالذين يمنعون تعليل الحكم بعلتين يقولون‏:‏ الثابت بالعلل أحكام متعددة لا حكم واحد لا سيما عند من سلم لهم على أحد قولي الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما‏:‏ أنه إذا نوى التوضؤ أو الاغتسال من حدث بعض الأسباب لم يرتفع الحدث الآخر‏.‏ والخلاف معروف في اجتماع ذلك في الحدث الأصغر والأكبر وهو ينزع إلى اجتماع الأمثال في المحل الواحد، وأن الأمثال هل هي متضادة أم لا ‏؟‏ وفيه نزاع معروف‏.‏ ومن يقول بتعليل الحكم الواحد بعلتين لا ينازع في أنه إذا اجتمع علتان كان الحكم أقوى وأوكد مما إذا انفردت إحداهما، ولهذا إذا جاء تعليل الحكم الواحد بعلتين في كلام الشارع أو الأئمة كان ذلك مذكورا لبيان توكيد ثبوت الحكم وقوته كقول أحمد في بعض ما يغلظ تحريمه‏:‏ هذا كلحم خنزير ميت فإنه ذكر ذلك لتغليظ التحريم وتقويته وهذا أيضا يرجع إلى أن الإيجاب والتحريم والإباحة هل يتفاوت في نفسه ‏؟‏ فيكون إيجاب أعظم من إيجاب، وتحريم أعظم من تحريم ‏؟‏ وهذا فيه أيضا نزاع والمشهور عند أكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم‏:‏ تجويز تفاوت ذلك ومنع منه طائفة منهم ابن عقيل وغيرهم‏.‏

وكذلك النزاع في أنه هل يكون عقل أكمل من عقل ‏؟‏ وهو يشبه النزاع في أن التصديق والمعرفة التي في القلب هل تتفاوت ‏؟‏ وقد ذكر في ذلك روايتان عن أحمد والذي عليه أئمة السنة المخالفون للمرجئة‏:‏ أن جميع ذلك يتفاوت ويتفاضل وكذلك سائر صفات الحي من الحب والبغض، والإرادة والكراهة، والسمع والبصر، والشم والذوق واللمس والشبع والري والقدرة والعجز وغير ذلك فالنزاع في هذا كالنزاع في جواز اجتماع المثلين مثل سوادين وحلاوتين فإنه لا نزاع أنه قد يكون أحد السوادين أقوى وإحدى الحلاوتين أقوى لكن هل يقال‏:‏ إنه اجتمع في المحل سوادان وحلاوتان ‏؟‏ أو هو سواد واحد قوي ‏؟‏ وهذا أيضا نزاع لفظي‏.‏ فقول من يقول‏:‏ إنه اجتمع في المحل حكمان كإيجابين وتحريمين وإباحتين وهو شبيه بقول من يقول‏:‏ اجتمع سوادان وقول من يقول‏:‏ هو حكم واحد مؤكد كقول من يقول‏:‏ سواد واحد قوي وكلا القولين مقصودهما واحد فإن التوكيد لا ينافي تعدد الأمثال إذ التوكيد قد يكون بتكرير الأمثال كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا‏)‏ وقول القائل‏:‏ ثم ثم‏.‏ وجاء زيد جاء زيد وأمثال ذلك فالقول بثبوت أحكام والقول بثبوت حكم قوي مؤكد هما سواء في المعنى‏.‏

ومن المعلوم أنه سواء قال القائل‏:‏ ثبت أحكام متعددة أو حكم قوي مؤكد فذلك المجموع لم يحصل إلا بمجموع العلتين لم تستقل به إحداهما ولا تستقل به إحداهما لا في حال الاجتماع ولا في حال الانفراد فكل منهما جزء من العلة التي لهذا المجموع لا علة له كما أنه من المعلوم أن كل واحدة من العلتين مستقلة بأصل الحكم الواحد حال انفرادها ولكن لفظ الواحد فيه إجمال كما أن في لفظ الاستقلال إجمالا فكما أن من أثبت استقلال العلة حال الانفراد لا يعارض من نفى استقلالها حال الاجتماع فكذلك من قال‏:‏ يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين إذا أراد به أن كلا منهما تستقل به حال الانفراد فهذا لا نزاع فيه‏.‏ ومن قال‏:‏ إن المجموع الواحد الحاصل بمجموعهما لا يحصل بأحدهما فهذا لا نزاع فيه‏.‏ ومن جعل هذا المجموع أحكاما متعددة لم يعارض قول من جعله واحدا إذا عنى به وحدة النوع في المحل الواحد فيكون المقصود أن الحكم الواحد بالنوع تارة يكون شخصان منه في محلين فهذا ظاهر‏.‏ وتارة يجتمع منه شخصان في محل واحد فهما نوعان باعتبار أنفسهما وهما شخص واحد باعتبار محلهما‏.‏ فمن قال‏:‏ إن الحكم الحاصل بالعلتين حكم واحد فإن أراد به نوعا واحدا في عين واحدة فقد صدق ومن أراد به شخصين من نوع في عين واحدة فقد صدق ‏.‏

 فصل

وقد تبين بذلك أن العلتين لا تكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع وهذا معلوم بالضرورة البديهية بعد التصور، فإن الاستقلال ينافي الاشتراك، إذ المستقل لا شريك له فالمجتمعان على أمر واحد لا يكون أحدهما مستقلا به‏.‏ وأن الحكم الثابت بعلتين - سواء قيل‏:‏ هو أحكام، أو حكم واحد مؤكد - لا تستقل به إحداهما بل كل منهما جزء من علته، لا علة له‏.‏ وهكذا يقال في اجتماع الأدلة على المدلول الواحد‏:‏ أنها توجب علما مؤكدا، أو علوما متماثلة‏.‏ ومن هنا يحصل بها من الإيضاح والقوة ما لا يحصل بالواحد وهذا داخل في القاعدة الكلية وهو‏:‏ أن المؤثر الواحد - سواء كان فاعلا بإرادة واختيار أو بطبع، أو كان داعيا إلى الفعل وباعثا عليه - متى كان له شريك في فعله وتأثيره كان معاونا ومظاهرا له ومنعه أن يكون مستقلا بالحكم منفردا به ولزم من ذلك حاجة كل منهما إلى الآخر وعدم استغنائه بنفسه في فعله وأن الاشتراك موجب للافتقار مزيل للغنى، فإن المشتركين في الفعل متعاونان عليه وأحدهما لا يجوز - إذا لم يتغير بالاشتراك والانفراد - أن يفعل وحده ما فعله هو والآخر فإنه إذا فعل شيئا حال الانفراد - وقدر أنه لم يتغير، وأنه اجتمع بنظيره - امتنع أن يكون مفعولهما حال الاشتراك هو مثل مفعول كل منهما حال الانفراد، فإن المفعول إذا لم يكن له وجود إلا من الفاعل، والفاعل حال انفراده له مفعول، فإذا اجتمعا كان مفعولهما جميعا أكثر أو أكبر من مفعول أحدهما وإلا كان الزائد كالناقص بخلاف ما إذا تغير الفاعل كالإنسان الذي يرفع هو وآخر خشبة أو يصنع طعاما ثم هو وحده مثل ذلك، فإن ذلك لا بد أن يكون بتغيير منه في إرادته وحركته وآلاته ونحو ذلك وإلا فإذا استوى حالاه امتنع تساوي المفعولين حال الانفراد والاشتراك‏.‏

وفي الجملة فكل من المشتركين في مفعول فأحدهما مفتقر إلى الآخر في وجود ذلك المفعول، محتاج إليه فيه وإلا لم يكونا مشتركين، لأن كلا منهما إما أن يكون مستقلا بالفعل منفردا به، أو لا يكون فإن كان مستقلا به منفردا به امتنع أن يكون له فيه شريك أو معاون وإن لم يكن مستقلا منفردا به لم يكن المفعول به وحده بل به وبالآخر ولم يكن هو وحده كافيا في وجود ذلك المفعول بل كان محتاجا إلى الآخر في وجود ذلك المفعول مفتقرا إليه فيه‏.‏

وهذا يقتضي أنه ليس رب ذلك المفعول ولا مالكه ولا خالقه بل هو شريك فيه‏.‏

ويقتضي أنه لم يكن غنيا عن الشريك في ذلك المفعول بل كان مفتقرا إليه فيه محتاجا إليه فيه‏.‏

وذلك يقتضي عجزه وعدم قدرته عليه حال الانفراد أيضا كما نبهنا عليه من أن الإنسان لا ينفرد بما شاركه فيه غيره وإن لم يتغير تغيرا يوجب تمام قدرته على ما شاركه فيه الغير وذلك أن الفاعل إذا كان حال الانفراد قادرا تام القدرة، والتقدير أنه مريد للمفعول إرادة جازمة، إذ لو لم يرده إرادة جازمة لما وجد حال الانفراد ولا حال الاجتماع والاشتراك‏:‏ إذ الإرادة التي ليست بجازمة لا يوجد مرادها الذي يفعله المريد بحال والإرادة الجازمة بلا قدرة لا يوجد مرادها والإرادة الجازمة مع القدرة التامة تستلزم وجود المراد فلو كان أحد المشتركين تام القدرة تام الإرادة لوجب وجود المفعول به وحده ووجوده به وحده يمنع وجوده بالآخر فيلزم اجتماع النقيضين وهو‏:‏ وجود المفعول به وحده‏:‏ وعدم وجود المفعول به وحده وأن يكون فاعلا غير فاعل وذلك ظاهر البطلان‏.‏

وهذا التمانع ليس هو أن كل واحد من الفاعلين يمنع الآخر كما يقال إذا أراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه، أو إماتة شخص والآخر إحياءه وإنما هو تمانع ذاتي وهو‏:‏ أنه تمانع اشتراك شريكين تامي القدرة والإرادة في مفعول هما عليه تاما القدرة والإرادة فإن من كان على الشيء تام القدرة وهو له تام الإرادة وجب وجود المفعول به وحده وإذا كان الآخر كذلك وجب وجود المفعول به‏.‏ وهذان يتتابعان ويتمانعان إذ الإثبات يمنع النفي والنفي يمنع الإثبات تمانعا وتناقضا ذاتيا‏.‏ فتبين أن الاشتراك موجب لنقص الشريك في نفس القدرة وإذا قدر اثنان مريدان لأمر من الأمور فلا بد من أمرين‏:‏ إما أن يكون المفعول الذي يفعله هذا ليس هو المفعول الذي يفعله الآخر ولكن كل منهما مستقل ببعض المفعول‏.‏

وإما أن يكون المفعول الذي اشتركا فيه لا يقدر أحدهما على أن يفعله إذا انفرد إلا أن يتجدد له قدرة أكمل من القدرة التي كانت موجودة حال الاشتراك فإذا كان المفعول واحدا قد اختلط بعضه ببعض على وجه لا يمكن انفراد فاعل ببعضه وفاعل آخر ببعضه‏:‏ امتنع فيه اشتراك الامتياز كاشتراك بني آدم في مفعولاتهم التي يفعل هذا بعضها وهذا بعضها وامتنع فيه اشتراك الاختلاط إلا مع عجز أحدهما ونقص قدرته وأنه ليس على شيء قدير وهذا الذي ذكرناه بقولنا‏:‏ إن الاشتراك موجب لنقص القدرة‏.‏

 فصل

ثم يقال‏:‏ هذا أيضا يقتضي أن كلا منهما ليس واجبا بنفسه غنيا قويا بل مفتقرا إلى غيره في ذاته وصفاته كما كان مفتقرا إليه في مفعولاته وذلك أنه إذا كان كل منهما مفتقرا إلى الآخر في مفعولاته عاجزا عن الانفراد بها - إذ الاشتراك مستلزم لذلك كما تقدم - فإما أن يكون قابلا للقدرة على الاستقلال بحيث يمكن ذلك فيه أو لا يمكن‏.‏

والثاني ممتنع لأنه إذا امتنع أن يكون الشيء مقدورا ممكنا لواحد امتنع أن يكون مقدورا ممكنا لاثنين فإن حال الشيء في كونه مقدورا ممكنا لا يختلف بتعدد القادر عليه وتوحده فإذا امتنع أن يكون مفعولا مقدورا لواحد امتنع أن يكون مفعولا مقدورا لاثنين وإذا جاز أن يكون مفعولا مقدورا عليه لاثنين هو ممكن جاز أن يكون أيضا لواحد‏.‏ وهذا بين إذا كان الإمكان والامتناع لمعنى في الممكن المفعول المقدور عليه إذ صفات ذاته لا تختلف في الحال وكذلك إذا كان لمعنى في القادر فإن القدرة القائمة باثنين لا يمتنع أن تقوم بواحد، بل إمكان ذلك معلوم ببديهة العقل فإن من المعلوم ببديهة العقل أن الصفات بأسرها من القدرة وغيرها‏:‏ كل ما كان محلها متحدا مجتمعا كان أكمل لها في أن يكون متعددا متفرقا ولهذا كان الاجتماع والاشتراك في المخلوقات يوجب لها من القوة والقدرة ما لا يحصل لها إذا تفرقت وانفردت وإن كانت أحوالها باقية بل الأشخاص والأعضاء وغيرها من الأجسام المفترقة قد قام بكل منها قدرة فإذا قدر اتحادها واجتماعها كانت تلك القدرة أقوى وأكمل، لأنه حصل لها من الاتحاد والاجتماع بحسب الإمكان ما لم يكن حين الافتراق والتعداد‏.‏

وهذا يبين أن القدرة القائمة باثنين إذا قدر أن ذينك الاثنين كانا شيئا واحدا تكون القدرة أكمل فكيف لا تكون مساوية للقدرة القائمة بمحلين ‏؟‏ وإذا كان من المعلوم أن المحلين المتباينين اللذين قام بهما قدرتان إذا قدر أنهما محل واحد وأن القدرتين قامتا به لم تنقص القدرة بذلك بل تزيد علم أن المفعول الممكن المقدور عليه لقادرين منفصلين إذا قدر أنهما بعينهما قادر واحد قد قام به ما قام بهما لم ينقص بذلك بل يزيد فعلم أنه يمكن أن يكون كل منهما قابلا للقدرة على الاستقلال فإن ذلك ممكن فيه‏.‏ فتبين أنه ليس يمكن في المشتركين على المفعول الواحد أن يكون كل منهما قادرا عليه بل من الممكن أن يكونا شيئا واحدا قادرا عليه فتبين أن كلا منهما يمكن أن يكون أكمل مما هو عليه وأن يكون بصفة أخرى وإذا كان يمكن في كل منهما أن تتغير ذاته وصفاته ومعلوم أنه هو لا يمكن أن يكمل نفسه وحده ويغيرها إذ التقدير أنه عاجز عن الانفراد بمفعول منفصل عنه فأن يكون عاجزا عن تكميل نفسه وتغييرها أولى وإذا كان هذا يمكن أن يتغير ويكمل وهو لا يمكنه ذلك بنفسه لم يكن واجب الوجود بنفسه، بل يكون فيه إمكان وافتقار إلى غيره‏.‏ والتقدير‏:‏ أنه واجب الوجود بنفسه ‏[‏غير واجب الوجود بنفسه‏]‏ فيكون واجبا ممكنا وهذا تناقض إذ ما كان واجب الوجود بنفسه تكون نفسه كافية في حقيقة ذاته وصفاته لا يكون في شيء من ذاته وأفعاله وصفاته مفتقرا إلى غيره، إذ ذلك كله داخل في مسمى ذاته بل ويجب أن لا يكون مفتقرا إلى غيره في شيء من أفعاله ومفعولاته فإن أفعاله القائمة به داخلة في مسمى نفسه وافتقاره إلى غيره في بعض المفعولات يوجب افتقاره في فعله وصفته القائمة به إذ مفعوله صدر عن ذلك فلو كانت ذاته كافية غنية لم تفتقر إلى غيره في فعلها فافتقاره إلى غيره بوجه من الوجوه دليل عدم غناه وعلى حاجته إلى الغير وذلك هو الإمكان المناقض لكونه واجب الوجود بنفسه‏.‏ ولهذا لما كان وجوب الوجود من خصائص رب العالمين والغنى عن الغير من خصائص رب العالمين‏:‏ كان الاستقلال بالفعل من خصائص رب العالمين وكان التنزه عن شريك في الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين فليس في المخلوقات ما هو مستقل بشيء من المفعولات وليس فيها ما هو وحده علة تامة وليس فيها ما هو مستغنيا عن الشريك في شيء من المفعولات بل لا يكون في العالم شيء موجود عن بعض الأسباب إلا يشاركه سبب آخر له فيكون - وإن سمي علة - علة مقتضية سببية لا علة تامة ويكون كل منهما شرطا للآخر‏.‏

كما أنه ليس في العالم سبب إلا وله مانع يمنعه في الفعل فكل ما في المخلوق مما يسمى علة أو سببا أو قادرا أو فاعلا أو مؤثرا - فله شريك هو له كالشرط وله معارض هو له مانع وضد وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 49‏]‏؛ والزوج يراد به‏:‏ النظير المماثل والضد المخالف‏.‏ وهذا كثير فما من مخلوق إلا له شريك وند والرب سبحانه وحده هو الذي لا شريك له ولا ند ولا مثل له بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقا ولا ربا مطلقا ونحو ذلك لأن ذلك يقتضي الاستقلال والانفراد بالمفعول المصنوع وليس ذلك إلا لله وحده‏.‏

ولهذا وإن تنازع بعض الناس في كون العلة يكون ذات أوصاف وادعى أن العلة لا تكون إلا ذات وصف واحد فإن أكثر الناس خالفوا في ذلك وقالوا‏:‏ يجوز أن تكون ذات أوصاف بل قيل‏:‏ لا يكون في المخلوق علة ذات وصف واحد إذ ‏[‏ليس‏]‏ في المخلوق ما يكون وحده علة ولا يكون في المخلوق علة إلا ما كان مركبا من أمرين فصاعدا فليس في المخلوقات واحد يصدر عنه شيء فضلا عن أن يقال‏:‏ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد بل لا يصدر من المخلوق شيء إلا عن اثنين فصاعدا‏.‏ وأما الواحد الذي يفعل وحده فليس إلا الله فكما أن الوحدانية واجبة له لازمة له فالمشاركة واجبة للمخلوق لازمة له والوحدانية مستلزمة للكمال والكمال مستلزم لها‏.‏ والاشتراك مستلزم للنقصان والنقصان مستلزم له‏.‏ والوحدانية مستلزمة للغنى عن الغير والقيام بنفسه ووجوبه بنفسه وهذه الأمور من الغنى والوجوب بالنفس والقيام بالنفس مستلزمة للوحدانية والمشاركة مستلزمة للفقر إلى الغير والإمكان بالنفس وعدم القيام بالنفس وكذلك الفقر والإمكان وعدم القيام بالنفس مستلزم للاشتراك‏.‏

فهذه وأمثالها من دلائل توحيد الربوبية وأعلامها وهي من دلائل إمكان المخلوقات المشهودات وفقرها وأنها مربوبة فهي من أدلة إثبات الصانع لأن ما فيها من الافتراق والتعداد والاشتراك يوجب افتقارها وإمكانها والممكن المفتقر لا بد له من واجب غني بنفسه وإلا لم يوجد ولو فرض تسلسل الممكنات المفتقرات فهي بمجموعها ممكنة والممكن قد علم بالاضطرار أنه مفتقر في وجوده إلى غيره فكل ما يعلم أنه ممكن فقير فإنه يعلم أنه فقير أيضا في وجوده إلى غيره فلا بد من غني بنفسه واجب الوجود بنفسه وإلا لم يوجد ما هو فقير ممكن بحال‏.‏

وهذه المعاني تدل على توحيد الربوبية، وعلى توحيد الإلهية، وهو‏:‏ التوحيد الواجب الكامل الذي جاء به القرآن، لوجوه قد ذكرنا منها ما ذكرنا في غير هذا الموضع‏.‏ مثل‏:‏ أن المتحركات لا بد لها من حركة إرادية ولا بد للإرادة من مراد لنفسه وذلك هو الإله‏.‏ والمخلوق يمتنع أن يكون مرادا لنفسه كما يمتنع أن يكون فاعلا بنفسه فإذا امتنع أن يكون فاعلان بأنفسهما امتنع أن يكون مرادان بأنفسهما ‏.‏